الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من صاحب الأخيار ارتقى إلى الله و من صاحب الأشرار هوى إلى أسفل سافلين :
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا في موضوع الأمثال، نتقل اليوم إلى أمثال السنة النبوية المطهرة، من الأحاديث الصحيحة الشريفة التي تذكر المثل قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة ))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري]
بحياتنا موضوع خطير جداً، هذا الموضوع: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، إنك إن صحبت الأخيار ارتقيت بهم إلى الله، وإن صحبت الأشرار هووا بك إلى الهلاك، فالصاحب ساحب، والصاحب هوية لك، أنت من؟ أعرفك من أصحابك، فلا يعقل ولا يقبل أن المؤمن الطاهر العفيف يصاحب إنساناً منحرفاً، بذيء اللسان، له مغامرات في المعاصي والآثام، يفتخر بها، كيف يكون صاحب لك؟.
هناك ملمح دقيق جداً أنك حينما تقبل هذا صاحباً فهذا تقييمٌ لك وأنت لا تشعر، كيف قبلته صاحباً؟ كيف استمعت إلى مغامراته في المعاصي والآثام؟ كيف وجدت في صحبته مغنماً وهو منحرف أشد الانحراف؟
فلذلك الإنسان المؤمن بحاجة ماسة إلى ما يسمى بالحمية الاجتماعية، من هنا جاءت الآيات الكريمة:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[سورة الكهف الآية:28]
معنى هذا أن هناك صاحباً يأخذ بيدك إلى الله، و صاحباً آخر يمتعك بزينة الحياة الدنيا:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
على الإنسان ألا يصاحب إلا من ينهض به إلى الله حاله :
علماء القلوب يقولون: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، لذلك يتضح من هذا التوجيه الحصيف، أن الصاحب له مهمتان: مهمةٌ بيانية، ومهمةٌ نفسية، أنت حينما تصاحب مؤمناً موصولاً بالله، في موضوع ليس له علاقة بالحديث، والكلام، والعلم، تشعر براحة، هذه الراحة أكدها النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
((لو بقيتم على الحال التي أنتم بها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم ))
[أخرجه مسلم عن حنظلة]
يتضح من قول النبي الكريم أن للصحابة الكرام حالاً يسمو بهم وهم عند رسول الله، هذا الحال بشكل مخفف يجيده كلُ مؤمنٌ في المسجد، أنت في بيت الله، أخوة كثر يقولون: نحن في المسجد نتوق إلى الآخرة، إلى قيام الليل، إلى العمل الصالح، هذا الجو جو المسجد، جو قرب، جو توبة، جو إنابة، جو إقبال، جو حب، جو عمل صالح، فالإنسان حينما يأتي إلى بيت الله هناك ضيافة من الله.
(( إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر))
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مسعود]
الجماعة رحمة :
لذلك هناك فرق كبير جداً بين أن تصلي في البيت، وبين أن تصلي في المسجد، بالمسجد هناك جماعة، والجماعة رحمة.
((عليكم بالجماعةِ، وإِيَّاكُم والفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ ))
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمر]
(( فإنما يأكلُ الذِّئبُ من الغنم القاصية))
[أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء]
فرق كبير جداً بين المؤمن الذي يصلي في المسجد و بين المؤمن الذي يعيش وحده، هذا المؤمن على أنه مؤمن معرض للفتن، معرض أن يفتي لنفسه فتوى غير صحيحة، أن يتوهم شيئاً غير صحيح، لكن المؤمن الصادق له مرجع، له مرجع يثق به، يثق بعلمه، يثق بورعه، هذا المرجع بالتعبير المعاصر يصحح المسار، أنت تنطلق في الحياة، أحياناً يأتيك عمل له دخل كبير، قد يغيب عنك سلبياته، تتضح أمامك إيجابياته، لو لك مرجع يقول لك: لا، هذه السلبيات تتفاقم حتى تهلك صاحبها، إذاً المؤمن بحاجة إلى مرجعية، هذه المرجعية مرجعية علم، ومرجعية ورع، قد يكون الإنسان عالماً، ولأنه عالم عنده فتاوى كثيرة جداً ضعيفة تبيح بعض الأشياء التي حرمت بشكل أو بآخر.
فحينما تكون مع إنسان ورعه قليل جداً، يعطيك رخصاً كثيرة جداً، هذا الرخص مريحة، تحل بها المشكلات، لكنها على حساب صلتك بالله، على حساب ورعك، على حساب دينك، لذلك لا تفرح بفتوى تبيح لك ما توهمته، أو ما كنت معتقداً أنه حرام، اجلس مع من يعطيك الفتوى التي تحفظ لك دينك.
الفرق الكبير بين الذي يأتي إلى بيوت الله وبين الذي لا يأتي إليها :
إذاً:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾
أي الجلوس في المجلس على الأرض، لا يوجد ضيافة، بأي مكان آخر هناك جلوس على مقاعد مريحة، وضيافة، و نساء ورجال، و طرف، و فكاهات، و أشياء ممتعة، معنى
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾
قد تجد في دروس العلم جهداً.
لكن يقولُ بعض الصادقين: والله شعرت بسعادة في هذا الدرس لا توصف، هذا الدرس فيه معونة إلهية، لأن الله عز وجل يتنزل بسكينته على رواد المساجد، هذه السكينة يصعب تفسيرها، عطاء إلهي، تشعر بالثقة، تشعر بالراحة، تشعر بالتفوق، تشعر بالأمن، تشعر أن الله لن يتخلى عنك، تشعر أن الله يحبك، هذه المشاعر مسعدة، مشاعر مطمئنة، مشاعر تعطيك دفعاً لأن تكون بطلاً في الحياة، لذلك فرقٌ كبير بين الذي يأتي إلى بيوت الله وبين الذي لا يأتي إليها.
((إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني ))
[أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مسعود]
مكان التعرف على المؤمنين لا يكون إلا في بيوت الله :
طبعاً ذكرت بيوت الله عز وجل في أثناء الحديث عن الجليس الصالح، تأخذ هذا الجليس من بيوت الله، مكان التعرف على المؤمنين في بيوت الله، لكن في الأماكن العامة لا ترى هؤلاء الذين لا يخافون الله عز وجل، فالنتيجة هذا النص النبوي مهم جداً في أن تتخذ صاحباً مؤمناً، والحديث:
((لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ ))
[أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري ]
(( إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك))
[أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري]
هذا المؤمن يتحدث عن شرح آية، والله شيء جميل! الآية منهج، الآية توجيه، الآية قانون، الآية سبيل الخلاص، يتحدث لك عن صحابي جليل بطل، تعجب بهذه البطولة، يتحدث لك عن تجربة عن الله، آثر رضوان الله فأكرمه الله إكراماً شديداً، يقدم لك تجاربه، يقدم لك معلوماته، نصوصه، قصصه، لذلك: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله.
((الجليس الصالحُ والجليسُ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ ـ أي يعطيك، الإحذاء هو العطاء ـ إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة))
إما أن يعطيك، أو يبيعك شيئاً نفيساً، فإن لم تأخذ منه شيئاً، ولم تبتع منه شيئاً، هناك رائحة طيبة، وحديث طيب، و وجه مشرق، و قلب منيب، و معاونة، و حب.
الأخوة الإيمانية من أكبر ثمار الإيمان :
الآن كل شيء موجود في العالم الإسلامي أما هذا الحب الذي كان بين الصحابة يفتقده المسلمون إليه، لضعف الأخوة الإيمانية، والأخوة الإيمانية من أكبر ثمار الإيمان، وأنا أؤكد لكم أنه ما من علاقة في الحياة الدنيا أمتن وأقوى من علاقة المؤمنين.
(( المسلمُ أخو المسلمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُه ))
[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمر]
أي قضية إيمان، لك أخ في الله، صادق، أمين، محب، ناصح، صادق.
المؤمن العاقل لا يدع قضية الصداقة قضية جانبية عفوية لا تأثير لها :
أيها الأخوة:
(( كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ فحاملُ المسك: إِما أن يُحْذِيَكَ ـ أي أن يعطيك ـ وإِما أن تبتاع منه وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير: إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة ))
وصدقوا ولا أبالغ أن معظم حالات الدمار التي اطلعت عليها تبدأ برفيق السوء، وأنا أقول للآباء الكرام: أخطر شيء في حياتك أصدقاء أولادك، هؤلاء الأصدقاء إما أن يأخذوا بأيدي أولادك إلى الهلاك والدمار، وإما أن يرقوا بهم إلى أعلى عليين، لذلك الأب العاقل يدقق في أصدقاء أولاده، والأم العاقلة تدقق في صديقات بناتها.
هناك دراسة علمية أن الشاب يتلقى تأثيره ممن؟ من أبيه، من أمه، من أخوته الكبار، من أخوته الكبيرات، من معلميه، من شيخ المسجد، هذه مصادر التوجيه والتأثير، كل هؤلاء لا يزيد تأثيرهم عن أربعين بالمئة، والصاحب وحده تأثيره في ابنك يقدر بستين بالمئة، كل هؤلاء، الأب، والأم، والأخ الكبير، والأخت الكبيرة، والمعلم، والشيخ، كلهم في مجموعهم تأثيرهم في الشاب 40% بينما صاحبه تأثيره 60%، مرة ثانية كل حالات الهلاك والدمار التي تصيب الشباب من رفاق السوء.
مرة قرأت قصة شاب من بلد عربي، صاحب شاباً منحرفاً، دله على القمار، ثم دله على الزنا، ثم صاحب آخراً فدله أن يعمل عميلاً في دولة محتلة في أفغانستان، ثم اتهم بالخيانة، ثم أُعدم، من أين بدأت؟ من صاحب، لو تتبعت حالات الدمار تبدأ من صاحب سوء.
لذلك أيها الأخوة، أخطر شيء بحياتك من تصاحب، وأخطر شيء بتربية أولادك من هم أصدقاء أولادك، ومن هم صديقات بناتك، والمؤمن العاقل لا يدع قضية الصداقة قضية جانبية عفوية لا تأثير لها، هذا أخطر موضوع يعالجه الأب مع أولاده.
والحمد لله رب العالمين